هذه المقالة من بين المقالات الأولى التي نشرت لي وكنت كتبتها عام 1992م
حالة واتساب لأحد المقربين مني جعلتني أبحث عنها بين ذكرياتي وعند قراءتي لها رأيتها تتحدث عن حالي وكأنني كتبتها للتو.
========
حالنا مع الذكريات: بين أسر الماضي وسحر الحاضر
الذكريات هي جسرٌ بين ما كان وما هو كائن، وبين ما نطمح إليه في المستقبل. تلك اللحظات التي كنا فيها مفعمين بالحياة أو حتى في لحظات الحزن والألم، تصبح بعد مرور الوقت شيئًا غامضًا، لكنها تبقى حية في أذهاننا. لا شك أن الذكريات هي جزء لا يتجزأ من هوية الإنسان، فهي تشكل فصول حياته وتمنحه الشعور بالاستمرارية. لكن في بعض الأحيان، قد نعيش في أسر هذه الذكريات، مما يجعلنا نبتعد عن الحاضر ونغرق في عالمٍ من الماضي الذي لا يمكن استعادته.
الذكريات بين الماضي والحاضر
من الطبيعي أن يعيش الإنسان مع ذكرياته، فهي تمثل تجربة شخصية لا يمكن فصله عنها، وتؤثر بشكل كبير في سلوكه وأفكاره. لكن المشكلة تبدأ عندما تصبح هذه الذكريات هي السائدة، وعندما نجد أنفسنا نغرق فيها بشكل متواصل. في تلك اللحظات، يكون الحاضر مجرد مساحة تمر فيها الأيام بشكل آلي، دون أن نشعر بلذتها أو جمالها. يصبح الماضي هو المحرك الأساسي لمشاعرنا، ويأخذنا في رحلة مستمرة عبر أحداث قد تكون مفرحة أو حزينة وقد تكون مؤلمة أحياناً.
في بعض الأحيان، قد نعيش في ذكريات لا تعد ولا تحصى، نقلّبها بين أيدينا، نتذكر الوجوه التي غابت، والأماكن التي اختفت، واللحظات التي كانت مليئة بالسعادة، ثم نتمنى لو أن الزمن عاد إلى الوراء. في تلك اللحظات، قد ننسى أن كل لحظة جديدة هي فرصة لإعادة بناء الذات وتشكيل ذكريات جديدة. لكننا نغرق في الماضي ونقيس الحاضر بنفس المعايير التي كانت موجودة في الماضي، مما يجعلنا نشعر بالفجوة بين ما نعيشه الآن وبين ما كنا عليه في تلك الأيام.
الذكريات وسرقة الحاضر
لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد. ففي بعض الأحيان، تصبح الذكريات أكثر من مجرد تذكّر لأحداثٍ ماضية، بل تتحول إلى سجنٍ نعيشه يومًا بعد يوم. إننا لا نعيش في الحاضر وإنما نعيش في الماضي، وهذا يحدث عندما نواصل التفكير في الماضي بشكل مستمر، حتى تصبح الذكريات جزءًا من هويتنا اليومية. قد نرى أن حياتنا الحالية أقل إثارة من الماضي، وأننا فقدنا شيئًا من تلك اللحظات التي كانت مليئة بالبهجة أو الشغف. هذا الشعور قد يسرق منا متعة الحياة في الحاضر، ويجعلنا نعيش في حالة من التشتت بين ماضٍ قد لا يعود، وحاضرٍ لا نتمكن من التفاعل معه بالشكل الصحيح.
أحيانًا قد تكون الذكريات أيضًا مشحونة بالألم، فنغرق في تلك اللحظات التي عشنا فيها الألم والفقدان، وقد تتضارب مشاعرنا بين الرغبة في نسيان تلك اللحظات وبين العجز عن تخطيها. في هذه الحالة، لا تصبح الذكريات مجرد جزء من الماضي، بل هي عبءٌ ثقيل يرافقنا في كل لحظة. قد نعيش في حالة من الندم أو الشوق إلى ما كان، مما يجعلنا نبتعد عن الحاضر، ونتجنب الانخراط في اللحظة الحالية بكل ما تحمله من فرص.
هل نحن من نصنع ذكرياتنا أم أنها هي التي تصنعنا؟
إذا كانت الذكريات تمنحنا نوعًا من الاستمرارية وتساعدنا على تحديد من نحن، فإنها في نفس الوقت قد تصبح عبئًا يثقل كاهلنا. حينما نغرق في الذكريات، نميل إلى أن نفقد القدرة على التفاعل مع الواقع بشكل حقيقي، لأننا نعيش في الظلال بدلاً من أن نعيش في الضوء الساطع للحظة الحالية. هذا التناقض بين الماضي والحاضر قد يجعلنا نشعر بأننا لسنا نحن، وأننا قد فقدنا شيئًا من هويتنا الأصلية. في بعض الأحيان، نعتقد أن العودة إلى الماضي أو العيش في ذكرياته هو الطريق الوحيد للراحة، لكن الحقيقة هي أن الحاضر يحمل في طياته الفرص التي قد تخلق ذكريات جديدة، بل وأحيانًا أكثر سعادة مما عشنا في الماضي.
هل حالنا مع الذكريات أفضل؟ أم أننا سنكون أفضل بدونها؟
في النهاية، يظل السؤال قائمًا: هل نحن بحاجة إلى الذكريات لتحديد من نحن؟ وهل من الأفضل أن نعيش مع الذكريات ونستمد منها القوة، أم أننا قد نكون أفضل حالًا لو تخلصنا منها وعشنا كل لحظة كما هي؟ قد يختلف الجواب من شخص لآخر، لكنه يبقى سؤالًا حيويًا يتطلب منا أن نواجه أنفسنا بصدق. فبينما تمنحنا الذكريات الأمل في الأوقات الصعبة، فإن الحاضر هو ما نستطيع أن نسيطر عليه الآن. ربما يكون التوازن بين التقدير للذكريات والعيش في الحاضر هو الطريق الأمثل، ولكن هل نحن قادرون على إيجاد هذا التوازن؟