لقد مرت سنة وتلتها أشهر منذ رحيلك، قد لا أحصيها كما ينبغي فهي ليست سوى أرقام في حقيقتها النظرية، إلا أنها بالنسبة لي بدت وكأنها الدهر كله. ما زلت أستيقظ في الصباح معتقدا أن هذا مجرد كابوس مزعج وأنك لم تذهب حقا، وأنني سأجدك في المكان الذي اعتدت رؤيتك فيه.
أستعيد المشهد مرارا وتكرارا وكأنني أملك القدرة على تغيير بعض تفاصيله أو تأجيل نهايته إلى ما لا نهاية.
لا أجد مفردات يمكنها وصف الشعور الذي أعيشه، إنما يمكنني القول أنني لم أشعر بعاطفة واحدة على الأقل أستطيع وصفها منذ وفاتك، إنها أشبه بالهجرة إلى عدة مناطق لا أعرفها ولم يسبق لي حتى أن سمعت بها وكل مرحلة من مراحل هذه الرحلة الطويلة مختلفة عن الأخرى تماما.
أذكر أنك أخبرتني عندما كنت صغيراً أننا في الحقيقة نحزن على أنفسنا لأن من رحلوا عنا، هم في مكان أفضل.
أحدث نفسي بهذا كثيراً من باب المواساة واستجماع القوة للمواصلة، لكنني ما زلت أفتقدك بشدة، ففقد الأب تجربة وألم لا تنتهي أبدا.
مضت الأيام في تقلب غريب فتارة أشعر بها تمر سريعاً وتارة أجدها جامدة وكأنها لا تريد الحراك وأخرى تجدها كلها متشابهة وكأن الأحداث نسخت من بعضها.
عندما أستعيد آخر عهدك بالحياة أو آخر عهدي بك، أتذكر سنوات مضت وأنا أشاهدك تتحمل ألما مروعا ومستمرا كل لحظة، صليت ودعوت وناشدت الله أن يشفيك، ويخفف معاناتك ويمنحك القدرة على التجلد ويمنحك الرضا والسكون.
كانت تلك الفترة بالنسبة لي أشبه بالأحكام الشاقة أو العذاب المستمر، فآلام من نحبهم تقتلنا مرات ومرات، فنحن لا نستطيع أن نرفع عنهم الألم أو نخففه، ونقاتل من أجل أن نخفي عنهم ألمنا، وهذا يقتلنا آلاف المرات.
كل ذلك بدا وكأنه حكم بالإعدام يتكرر ويتكرر دون أن ينتهي.
بعد رحيلك أصبح حزني غامرا وخانقا لدرجة أنني شعرت في مناسبات عديدة بأنني أنا أيضا كنت أموت. كان قلبي ثقيلا جدا وكان الألم لا يطاق، لقد لعبت دورا رئيسيا في حياتي وكنت أستمد قوتي ورباطة جأشي منك والآن أنت قد رحلت فعلا.
طوال وجودي بقربك تحدثنا كل يوم حتى عندما كنت بعيدا. عمر من المحبة والعطاء اللامنتهي، عمر من الشعور بالأمان، عمر من الحب النقي الغير مشروط، عمر من الحياة والنجاة، عمر من المتعة المتكررة والمتواصلة والآن أصبحت لأجد أنك فعلاً قد رحلت.
مشاهدة حال أمي بعدك أمر لا يدركه عقلي، فهناك أوقات أنا متأكد من أنني أستطيع سماع صوت قلبها يتفطر.
لقد شاهدتها كيف تهتم بك على حساب نفسها وراحتها طوال الوقت، لكن بعناية إضافية في السنوات الأخيرة. لن أنسى أبدا كيف كانت تضيء عيناك بفرح عندما تدخل أمي.
معك أنت وأمي تعلمنا كيف يبدو الحب الحقيقي غير المشروط، وكيف تكون الحياة الحقيقية.
من ظننت بأنهم سيصبحون مرساتي سرعان ما رأيتهم الثقوب في قارب نجاتي. عائلتنا في حاجة ماسة إلى اللطف والحب والدعم، أي شيء آخر سيبدو قاسيا وغير مرحب به بيننا وربما لوقت طويل.
الأب هو المرشد الأول وقد يكون الوحيد خلال رحلتنا في الحياة، والآن حتى بعد رحيلك أنت توجهني وتقوّم خطواتي. أنت تريني باستمرار أن الحب لا يموت أبدا، تتحدث معي من خلال كل شئ وإذا أصغيت جيدا لا يزال بإمكاني سماع صوتك وكلماتك.
ظننت أنني سأتعود مع الأيام ومرورها وزحمة الحياة وأتجاوز معاناتي لكنني أفتقدك اليوم أكثر.
هناك الكثير منك في داخلي فقد علمتني كيف أحب الحياة حتى عندما تكون مرعبة وصعبة ومؤلمة. سأحمل دائما ألمك ومعاناتك في قلبي، لكن يمكنني أيضا رؤية والدي، بطلي الخارق، أقوى رجل وأعظم رجل في العالم. الرجل الذي رباني، الرجل الذي صنع مني أنا، الرجل الذي كان معلمي الأول، وأفضل صديق لي. الرجل الذي علمني كيفية القيادة، كيفية الحياة، الرجل الذي علمني أن المحافظة على البناء أهم بكثير من بناءه.
على الرغم من رحيلك، إلا أنني ما زلت أرى وجهك وأستطيع أن أشعر بحبك في أعماقي. أنت لا تزال معي، في ضحكاتي، ابتسامتي، دموعي وفي كتاباتي وفي كل تفاصيلي، أتحدث إليك في كل لحظة.
أنت لم تكن والدي فقط، كنت لي كل شيء الأب والأخ والصديق والمعلم والقاضي والحكيم والمستشار، بفقدك فقدتهم جميعاً، وأنا الآن أستيقظ كل يوم أستجمع ما بقي منك بداخلي لأجمع شيئاً مني لمواصلة الحياة رغم أنني لا زلت في مكان ما في أعماق أعماقي أشعر بأنني سأدخل البيت وأجدك جالساً هناك.