أغلبانا إن لم يكن جميعنا قرأ أو سمع بالخبر الذي مفاده:
مشاجرة على موقف سيارة تدفع أحدهم للموت"
شاب عمره سبعة عشر عاماً يقدم على قتل آخر بطعنه إثر خلاف على موقف سيارة في أحد المطاعم بمدينة الرياض.
ما الذي يمكن أن يقود شاباً أمامه مستقبل مشرق ليرتكب مثل هذا العمل اليائس؟
هل هو مرض ذهني أو عدوى !! أم هي قناعة راسخة بأن لا أحد يحق له الوقوف أمامي ؟؟
هل هو غير مدرك أن استخدام مثل هذا السلاح قد يؤدي للوفاة، أم أنه مدرك لهذا ويهدف فعلاً لقتل الطرف الآخر من باب أنه: "لا أحد يقف أمامي"ـ أو على قولتنا "مهايط".
سواء كانت الأولى أو الثانية فالأكيد أن خلفها خلل فكري سلوكي، أياً كانت الفكرة التي دفعته لفعل ما فعله فهي بالتأكيد مرض أصاب عقله وهذا يجعلنا ندرك أننا أمام خطر مخيف جداً جداً بدأ يستشري في مجتمعنا، فمتى بدء وكيف؟؟
هذه المرحلة مهمة جداً من حياة النشأ وهي بداية صناعة المستقبل لهم وللمجتمع بأسره، أو ليس مبكراً جداً أن نراهم تحت وطأة الشعور باليأس وفقدان الأمل أو اللامبالاة وعدم حساب العواقب، وانعدام الرغبة في أي صورة من صور الحياة الجادة!!
من أين أتى كل هذا؟؟
هذه المرحلة العمرية هي فترة انتقالية من عالم الطفولة إلى عالم البلوغ، إلا أننا نرى اليوم أعداداً هائلة بين شبابنا وفتياتنا يقبعون في هذه المرحلة ولا يغادرونها بل إن بعضهم يبقى في مرحلة الطفولة وإن بلغ الثلاثين أو تخطاها. فما الذي حصل؟ ولماذا؟؟
هؤلاء يثورون ضد أي نوع من المسؤلية في عالم الكبار وهذا السلوك يعد من أبرز مخرجات انهيار التواصل بين أفراد الأسرة الواحدة، ما يجعل أفرادها وخصوصاُ النشأ يعتزلون العالم الواقعي ويقبعون تحت أسر العالم الافتراضي والذي يزيد الأمر سوءً فهم لا يملكون الحصانة الكافية للتواجد فيه هذا العالم الذي لا حدود له ولا قيود.
معدل الجريمة، ظهور جرائم أو دوافع للجريمة لم يعهدها المجتمع سابقاً هي حتماً نتاج عملية تحول كبيرة في الأفكار والقناعات.
والسؤال الكبير هنا: لماذا؟؟
لنتمكن من معرفة السبب وراء سلوكيات شبابنا علينا أولاً أن نختبر طبيعتنا ونرى كيف تتطور. الحكمة المتوارثة وكذلك علم تركيب الشخصية الحديث تبين أن القوة الدافعة وراء السلوكيات البشرية هي الحاجة للمتعة. ب
معنى آخر أن كل فعل يصدر عن شخص تقف خلفه رغبة تبحث عن الإشباع.
هذه الرغبة في المتعة تتطور باستمرار داخل الإنسانية ما يدفعنا باستمرار للبحث عن أنواع جديدة من المتعة. هذا التطور يبدأ من رغباتنا الأساسية، تلك التي يجب علينا الوفاء بها من أجل البقاء مثل الحاجة إلى الماء والغذاء، والمأوى. في وقت مضى كان الحصول على شريك يشاركك لقمتك ومسكنك هو قمة النعيم.
في مرحلة لاحقة من تطور البشرية ظهرت أنواع جديدة من الرغبات الاجتماعية، هذه الرغبات تمازجت عندما بدأ الناس يتفاعلون داخل المجتمع الواحد، فأصبحت تشمل الرغبة في الثروة والشهرة والسلطة.
نحن معشر البشر تطورنا عبر هذه الرغبات خلال ألالاف السنين سعياً لتحقيق كل ما هو ممكن منها.
من هذا المنطلق:
نستطيع القول أن نجوم الفن والرياضة والسياسيين كلهم "صور" للرغبات الاجتماعية التي تتطور داخل الإنسانية.
ولكن اليوم، تظهر رغبة جديدة في علم الإنسانية، حاجة مجهولة لا يمكننا تحقيقها من خلال الرضا المادي، ولا من خلال التفاعل مع بعضنا البعض.
هذه الحاجة لا يزال صعب علينا نحديدها حرفياً، أو تسميتها، ولسنا متأكدين من كيفية تلبيتها.
إنها الحاجة إلى تحقيق ما لم يتم تحقيقة من قبل دون تحديده أو تسمته، وهذا ما نطلق عليه "ضياع الغاية والهدف" مما يدفع المرء وراء أي فعل غريب ظناً منه أن يحقق له هذه الرغبة المجهولة.
وفي كل مرة يكتشف أن ما أقدم عليه لا يلبي رغبته مما يزيد الاحساس بعدم الرضا بداخله، فيندفع باحثاً عن سلوك جديد أو تجربة جديدة لعله يجد فيها ضالته.
إذن ما علاقة كل هذا بالأزمة التي يواجهها الشباب اليوم؟؟
لأنهم في ذروة تطور الرغبات، يشعرون بطبيعتهم الجديدة أن المال والشهرة والسلطة لن تجلب لهم السعادة الحقيقية. بالطبع هذا لا يعني أن شباب اليوم لا يرغبون في أي شيء، على العكس تماما، لديهم الكثير لكنهم لا يعرفون كيفية تحديد رغباتهم الفعلية ومن ثم السعي لتحقيقها.
الأمر بسيط للغاية: إذا كنت حقا أريد هاتفاً جديداً كهدية، فلن أكون سعيدًا إذا أعطيتني مجموعة جديدة من الملابس. حتى إذا كانت الملابس تبدو رائعة علي، فهي ببساطة لا تتطابق مع ما أريده داخليًا، لا تحقق رغبتي الدافعة. (هذه رسالة يوحهها شبابنا وأطفالنا لنا كل يوم).
بالنسبة لشبابنا ، فالأمر متشابه مع أي نوع من المتعة. ينتقلون من رغبة واحدة إلى أخرى في سرعة البرق، ليجدوا أنفسهم غير راضين مجدداً.
في الوقت الذي يتخطون فيه سن الطفولة، يشعر الكثير منهم بخيبة الأمل والتشاؤم بشأن قدرة آبائهم على إظهار كيف يكونون سعداء. فهم لا يدركون لماذا يجب عليهم أن يعملوا بجد لتحقيق الأهداف التي حددها البالغون لهم.
من ناحية أخرى ، فهم لا يعرفون ما الذي يجاهدون من أجله كما أنهم غير مدركين لما سيترتب فعلياً على فعله أو تركه.
بالنسبة لأغلبنا، قد يبدو الأمر كأن أطفال اليوم كسالى، لكن افتقارهم إلى الحافز هو في الحقيقة تعبير عن اليأس.
قد يصل بهم الحال ليصبح يأسهم مؤلم للغاية لدرجة أن الحياة نفسها تبدو بلا جدوى ويبدو أن الانتحار هو الحل الوحيد من وجهة نظرهم. نعم هذا بدأ يحدث لدينا وهو مؤشر خطير كما أسلفت.
للتأقلم أو المسايرة فإن العديد من الفتية والفتيات يتبنون فكرة "الحياة قصيرة" فلنتناول الحلوى أولا ". وبالتالي يقضون جل وقتهم في مطاردة أي متعة قصيرة المدى، طالما كان من السهل الحصول عليها. والنتيجة هي أن هذا "الطفل الدائم" غير قادر على المحافظة على عائلة أو وظيفة، لأن ذلك ببساطة يتطلب جهدا حقيقيا.
هؤلاء معرضون أيضًا ليكونوا ضحايا لتجار المخدرات والكحول ومخططات الثراء السريع وصيداً سهلاً لأصحاب التوجهات الفكربة العدائية والإجرامية وتلك التي تخالف الفطرة البشرية السليمة.
فكل هذه الوعود بالحصول على المتعة المطلقة دون أي جهد يذكر تشكل ضغطاً داخلياً غير محسوس يقود إلى أفعال وردود أفعال غير مدركة من قبلهم ولا نستطيع نحن تفهمها أو تقبلها. ويتفاعل بعض الشباب في هذه المرحلة العمرية تجاه شعورهم بالفراغ بالغضب، ويهاجمون الآباء والمجتمع الذين لم يتمكنوا من تزويدهم بغاية مُجدية لحياتهم من وجهة نظرهم.
وفي بعض الأحيان، ينفجر هذا الغضب في أعمال عنف مروعة، مثل ما حصل في قصتنا هذه.
في أحيان أخرى يكون حرص الآباء على عدم معاناة أبنائهم هو المعاناة الفعلية للأبناء.
عجز الأجيال الجديدة عن فهم رغباتهم وإشباعها هو مصدر مشاكلهم. بدون توجيه من الأجيال السابقة، فالأجيال اللاحقة كمن يتلمس وهماً في الظلام محاولا إيجاد طريق لإشباع هذه الرغبات غير المألوفة التي يعيشها شباب اليوم.
جدير بالذكر هنا أن الأفلام الحديثة مثل The Matrix و Lord of the Rings و Harry Potter تعكس الرغبة في الحصول على أو ممارسة أشياء تتجاوز ما يمكن أن نجده في هذا العالم. أو بلغة أخرى اهتمامات بممارسات أنصار العصر الجديد (New Age).
التصوف والفلسفات الشرقية تشير كذلك إلى الحاجة المتزايدة لشعور الشباب بالحاجة الملحة لإيجاد معنى ملموس لحياتهم، وكل هذه منتشرة بين فئات الشباب المختلفة من الجنسين.
أيضاً على مدى سنوات مضت انتشرت بينهم عدة رسائل مبطنة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، تدعو الجيل الجديد للتمرد على كل ما هو موروث وأن الآداب العامة والاحترام ولطف الحديث وبعض المجاملة وغيرها من القيم الإنسانية مجرد عثرات بعيقنا من الوصول لغايتنا المنشودة.
من أجل مساعدة أطفالنا وشبابنا، يجب أن نعلمهم أن هناك سببًا للفراغ والارتباك الذي يشعرون به. نحتاج إلى أن نوضح لهم موقعهم في مسار التنمية العام للبشرية - وندعهم يرون أنهم يمثلون المرحلة الأخيرة في تطور الرغبات. وعلينا أن نوفر لهم طريقة لتطوير رغباتهم وتحقيقها.
من واجبنا أن نعطيهم فهماً ملموساً لغرض وجودهم في هذه الحياة يتماشى مع التطور الفكري الذي حصل لهم لا أن ننقل لهم صورة من موروثنا، والذي يكمن في الاختيار الواعي لواقع جديد أكثر سمواً، يمكننا أن نبنيه معاً - واقع مجتمع متناغم ومحبٍ - وبالتالي نصل إلى المستوى التالي من التطور البشري.
وبمجرد أن يعرف أطفالنا غرضهم الحقيقي، سيكون لديهم الدافع الفعلي وراء ذلك. وهذا سيفسح لهم المجال للتعامل مع اللامبالاة والغضب والاكتئاب واليأس بنفس الطاقة العاطفية التي اتبعها آباؤهم وأجدادهم في التعامل معه.
سيكون أطفالنا قادرين على الذهاب إلى أماكن أبعد وتحقيق حالات السعادة غير المحدودة التي طالما حلموا بها.
ولكن يجب علينا تزويدهم بالأدوات والإرشادات لرحلتهم هذه. وبذلك ، سنخلصهم من الكثير من البؤس ، ويمكنهم من العثور على السعادة الحقيقية، فيسرّعون طريق الجميع نحو الهدف الحقيقي لنا كبشر.
فعبادة الله تعالى تشمل كل ما يحبه الله تبارك وتعالى ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، ومن ذلك عمارة الارض وتحقيق الاستخلاف فيها بالعدل وفق منهج الله عز وجل الذي أرسل به رسله وختمهم بأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي في سيرته وأحاديثه ما يجعلنا ندرك عملياً أين نحن وأين ينبغي لنا أن نكون وكيف، فنحن إن تبعناها حتماً لن نضل.
ولكن يبقى السؤال دوما: "كيف"