أول ليلة لي في هذه الحياة قضيتها في أحضانها، فكان لدفء حضنها سحرٌ جعلني أتعلق بها تعلقاً جعل الجميع يستغربونه، وكأن تلكمُ الليلة بذرةٌ بذرتها في قلبي وجعلتني منذ الصغر لا أهدأ إلا بقربها ولا آنس إلا معها.
ثم ولأسباب مختلفة صرت أقضي أغلب يومي عندها، فحين صغري كانت والدتي حفظها تذهب بي إليها في الصباح وتعود لتأخذني في المساء وما أن بدأت أول خطواتي حتى صار أول شئ أفعله بعد استيقاظي هو الذهاب لها فوراً وتعيدني هي إلى بيت والدي بعد أن أنام في المساء لأعود إليها في الصباح الذي يليه حال استيقاظي.
كانت رحلتي معها مليئة بكل جميل ومفيد وممتع، فتعلمت منها أكثر مما تعلمته في المدارس والجامعات وقرأت من أفكارها وخبراتها ما لم تستطع كل الكتب التي قرأتها أن تزودني بمثيله.
كانت مدرسة تسير وتتنقل بين الأماكن والأشخاص، تحمل هموم الناس تعلمهم، تربيهم، تغرس فيهم مكارم الأخلاق وطيب التعامل، ولا تكتفي بمشاركتهم همومهم وحسب بل كانت تبذل لهم وتساندهم مادياً ومعنوياً رغم أنها لم تكن بحالة أكثر يسرٍ منهم، وحين أسألها كانت تقول لي:
ما نعدم الخير يا وليدي، ما نعدم الخير
علمت الأطفال القرآن، وعلمت الفتيات مهارات يكسبن بها رزقاً، كما علمتهن كيف يصبحن زوجات صالحات وأمهات أيضاً وقبل كل ذلك كيف يصرن نساء فعلاً.
في كل موقف يمر بنا معها كانت لها بصمة وحكمة ودرس جديد.
لا تقابل الإساءة بمثلها بل إنها تحسن حتى لمن آلمها وأساء لها، تتمتع بصفاء سريرة يجعل كل من يقترب منها يحبها
وبحكم قربي الشديد منها والوقت الطويل الذي عشته معها تعلمت منها أبجديات الحياة، وتعلمت طرقاً في التواصل مع الآخرين تعجب منها أساتذتي في الجامعة حين شرحتها لهم فسألوني في أي الكتب قرأت عنها أو على يد من تعلمتها من المعلمين.
حتى الأطباء الذين أشرفوا على علاجها كانوا ينادونها بـ (الوالدة)، و (أمنا الشيخة) و (الحاجة).
أحببت فيها كل شئ وبالأخص تلك الابتسامة التي تأسر القلوب، فقد كانت تبتسم حتى في أشد حالات الألم، وسبحان من وهبها تلك الروح التي تجبرك على الابتسام دوماً وأنت بحضرتها.
و كان لي موعد مختلف مع هذه الابتسامة يوم السبت الثالث عشر من شهر رمضان، فقد رأيتها هذا اليوم ولكنها كانت غير ما اعتدت عليه
فقد كانت أكثر صفاءً ونقاء من ذي قبل وكأنها قمر قد اكتمل،
نعم لقد غادرتنا وهي تبتسم، بعد أن صلت صلاة الفجر ثم قرأت ما شاء الله لها من القرآن الكريم، فكان المصحف هو ملاذها الذي تناجي به ربها لتخفف من الألم الذي صاحب أول رمضان لا تصومه بسبب المرض الذي لازمها طويلاً.
رحلت بهدوء بعد أن أعطت آخر توجيهاتها ودروسها لمن كتب الله لهم أن يكونوا معها ذلك الوقت،
يا سبحان الله
ذلك الشعور المؤلم والشتات الذي كنت أعيشه حين مرضها، لم أشعر به وأنا أوادعها قبل أن نواريها الثرى،
كنت زلا زلت أشعر بارتياح ولم يكن بنفسي أي كدر أو ضيق
سبحان الله
عجبت كثيراً من هذا ولكن ما أشعرني بالارتياح أكثر هو ما قاله لي أحد أخوالي، فقدر رآها في الحلم ليلة السبت وقالت له:
انتهت زيارات المستشفى با بني، فلن تأتي إلي أكثر وأنا الآن في أحسن حال وسآتيك اليوم،
فاستيقظ من النوم على هذه الكلمات التي قالتها له، وكانت وفاتها رحمها الله تعالى صباح تلك الليلة وتغير مسار دفنها من المدينة التي توفيت فيها إلى المدينة التي يسكنها خالي الذي جاءته في الحلم.
وكانت قبلها بليلتين فقط قد قصت علينا حلمها الذي رأت فيه جدي رحمه الله (زوجها).
معلمتي الأولى رحلت من هذه الدنيا ولكنها لم ترحل من قلوب من أحسنت إليهم وأحبوها،
لم نكن نحن أبناءها وأحفادها من اجتمعوا حولها في هذا اليوم بل لقد اكتظ المكان بأنس بمختلف الأعمار وكلهم قد أجمعوا على أمر واحد وهو أنها أحسنت إليهم جميعاً وكانت لها مواقف معهم لا يستطيعون حصرها أو رد شيئاً منها،
فكان هذا مما خفف الكثير علينا في يوم وداعها.
معلمتي الحبيبة
أسأل الله الكريم الذي جمعني بك في هذه الدنيا الفانية أن يجمعني بك ثانية، في جنة قطوفها دانية
رحمك الله يا جدتي الغالية فكم يعز علينا فراقك ولكن لا نقول إلا ما يرضي الله
فإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم آجرنا في مصابنا واخلفنا خيراً.